الخميس، 24 أكتوبر 2019

: و ما الفائدة

و ما الفائدة؟!
كل من يهتم بالفكر النظري يعرف ذلك السؤال, الذي نسمعه كثيرا جدا: و ما الفائدة؟ ما الذي يجنيه المجتمع من معرفة لا تشفي عليلا و لا تطعم جائعا و لا تسهم في تقدم تقني ؟ ... يستميت المنظرون في الدفاع عن أنفسهم, يتحججون بفائدة العلم و الفلسفة للمجتمع, او ربما يعتذرون بأن معرفتهم "عديمة الجدوي" ربما تصبح ذات نفع عظيم في المستقبل, علي طريقة بنيامين فرانكلين, حين سؤل عن فائدة الكهرباء فأجاب: و ما هي فائدة طفل وليد؟
تضايقني الاجابة مثلما يضايقني السؤال, فالسائل و المجيب كلاهما يفترضان أن الأفعال لا بد أن تكون لها "فائدة ما" لكي تحوز علي قيمة. و وفقا لنظرية الفائدة هذه, فان الطبيب و المهندس و المزارع ليسوا بحاجه لتبرير ما يفعلون, و اما الانصرافي الذي يعشق الرياضه أو الفن, أو ينشغل بالتأمل في روائع الكون, فعليه بالاعتذار, أو ربما الانتظار, حتي تسمح الظروف بمثل هذه الكماليات. لا أقبل بهذا الافتراض, و أري هذه النظره متسلطة و لا أخلاقية, بل و متناقضة أيضا, و فيما يلي سأشرح ما أعنيه بكونها متناقضه.
ما هي فائدة الطب, علي أي حال؟ الاجابه البديهية هي انقاذ الحياة, و لكن هذه الاجابة لا تفعل سوي أن تعيد السؤال خطوة واحدة الي الوراء, فيصبح: ما هي الفائدة من انقاذ الحياة, علي أي حال؟ .. لا يفعل الاطباء سوي اطالة حياتنا لحين, حتي نموت بسبب أخر!! و من ينظر بعد مئة عام من الأن لن يجد فرقا بين حالة من تمتع بالرعاية الطبية منا, و أولئك الذين حرموا منها, فكلاهما سيكون ميتا عندئذ!! ...
ربما يتفق معي القارئ في أن سؤالا مثل: ما فائدة هذا العقار؟ يبدو طبيعيا, بينما سؤال مثل: ما هي فائدة اطالة حياة المريض؟ يبدو شاذا للغاية و غريبا علي الأسماع. يفكر الطبيب في الفائده و هو يختار بين العقاقير لكي يحسن صحة مريضه, و لكنه لا يتوقف لحظة ليسأل عن الفائدة من تحسين صحة المريض من الأصل. يفكر المعماري في الفائدة و هو يختار بين التصاميم ليبني عمارة ثابتة الأساس مريحة لسكانها, و لكنه لا يسأل عن الفائده من اعمار الأرض و اسكان الناس. يفكر الأب في الفائدة و هو يختار بين المدارس, لكي يحصل ابنه علي أفضل تعليم, و لكنه لا يسأل عن الفائدة من حصول ابنه علي أفضل تعليم.
ما أريد قوله أن سؤال "ما الفائدة؟" لا يسأل هكذا الي ما لا نهاية. للعقاقير و الجراحات فائدة واضحة هي اطالة الحياة, و لكن اطالة الحياة ليست بالشيئ الذي نسعي اليه لأن له فائدة ما , اننا نسعي اليه وحسب, فهو غاية في ذاتها. يعبر الفلاسفة عن هذه النقطة باقامة تمييز بين الوسائل -التي لا قيمة لها في ذاتها و لكنها تكتسب قيمتها من غاياتها- و بين الغايات -التي تتمتع بقيمة متأصله inherent value لا تكتسبها من أي غاية سوي نفسها- .. من العبث أن نسأل عن الفائدة و نحن نتحدث عن الغايات الأعمق للأفعال الانسانية -مثل البقاء و السعادة- , فتلك الغايات لا فائدة منها, لأنها هي نفسها أصل كل فائدة, و بدون الالتزام بها لا تعود لكلمة "فائدة" أي معني. ما أريد قوله, اذن, أن المعرفه, هي ايضا, ذات قيمة متأصلة, انها غاية في ذاتها. و السؤال عن فائدتها يشبه في عبثيته السؤال عن فائدة الاهتمام بأنفسنا أو بأطفالنا أو بحياة الأخرين.
أهتم كثيرا بألوان الفراشات, و سلوك الغزل لدي الديناصورات, و بالوحوش الغريبة التي كانت تسبح في محيطات العصر الكامبري قبل ستمئة مليون عام. لا أعرف ان كانت هناك فائدة عملية من الاهتمام بهذه الأشياء, و لا أبالي. و ان كان علي كل ما نفعله أن تكون له فائدة ما, فربما يكون من الأفضل أن نذهب للقبر حالا, اذ لن يعود هناك ما نفعله في هذه الحياة!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق